logo

قصة بعنوان ‘بذور الخير‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة

موقع بانيت وصحيفة بانوراما
11-09-2025 15:21:05 اخر تحديث: 12-09-2025 04:37:32

أصوات وصلت الى اذني من مكان معين. أصوات جعلتني أنهض من مكاني فقد كان لدي حب استطلاع غريب لأول مرة، رغم أني لست من الأشخاص الذين يهتمون بما يحدث خارج نطاق حياتهم، لكني تفاجأت عندما شاهدت وسمعت أولادًا

الكاتبة اسماء الياس - صورة شخصية

يلهون في ساحات أحد البيوت، وأصواتهم المرحة تصل الى كل مكان، ومما زاد استغرابي وجود ذلك العدد من الصبية يلهون تاركين أجهزتهم الذكية.

 ابتسمت وعدت للداخل، حملت بيدي هاتفي وبدأت أكتب. في إحدى الأيام وجدت نفسي أمام مشهد لن يتكرر مجموعة من الصبية يلهون ويلعبون كرة القدم، يتسابقون، من يكون الأول الذي سوف يصل الى مكان معين، ضحكاتهم وأصواتهم أعادت لي تلك الفترة من طفولتي، أيام كنا نلعب في الحارة، ويخرج جارنا يقول لنا "صرصعتونا" يا أولاد. ونحن كنا نخاف ونهرب متفرقين كأننا عصافير هربت من وجه الصياد.

في تلك اللحظة وقبل أن ابدأ بكتابة هذه القصة قررت أن أقوم بتجربة ما.

عدت نحو النافذة ولكن هذه المرة حتى أنظر لتلك المجموعة من الصبية، لعل وعسى أستنبط مما يقومون به من العاب عن فكرة تكون الأساس للقصة التي نويت كتابتها.

نظرت نحو طفل كان هو الأكثر حركة من باقي الأطفال. ناديت عليه فقد كنت أعرفه تمام المعرفة فهو ابن جيرانا دار أبو يوسف. 

فقد أنجبته والدته بعد عدة علاجات مستمرة، حتى بالأخير جاء إلى الدنيا يوسف.

فهو جميل الخلقة وذكي لدرجة أحيانًا كنت أجده يجلس مع مجموعة من أولاد صفه يساعدهم بالمطالعة، أو بتركيب بعض العاب "البازل". التي تحتاج الكثير من التركيز.

عندما وجدني أنظر نحوهم والاستطلاع يكاد يقتلني، نظر نحوي وابتسم، وأشار لي بأن أجيء، لم أتقاعس فقد كنت اود أن أكون معهم عن قرب، حتى اعلم ما سر العابهم اليوم، وفي هذا الوقت بالذات. رغم ان أغلبية الأولاد لا يتركون أجهزتهم الذكية ولا لحظة.

عندما وصلت عندهم اقترب مني يوسف وبعض زملائه الذين كانوا يلهثون من المجهود الجسماني الذي بذلوه.

قلت لهم:

يا أولاد أليس من الاستغراب أن أجدكم تلعبون هنا وبقية الأولاد في البيوت أمام الشاشات يقضون أوقاتهم؟

تبرع يوسف بالإجابة. فقد كان هو أشجع الأولاد على الاطلاق. 

قال لي أستاذة رحاب: لقد شرح لنا الأستاذ فضل بأن المجهود الجسماني الذي نقوم به يقوى العضلات ويجعلنا أكثر قوة لمجابهة الفيروسات. فالجسم يصبح لديه مناعة قوية عندما نأكل طعامًا صحيًّا ونمارس الرياضة بكل أشكالها، فإننا نحافظ على البيئة من التلوث. ونعمل سويًا على ان يعم السلام والأمن على كوكبنا عندما نحب بعضنا البعض، عندما لا يكون بيننا أي عداوة، ونكون أخوة بالإنسانية.

تأثرتُ كثيراً بكلامه الذي فاجأني بنضجه. لم أتوقع أبداً أن يوسف الصغير يمكن أن يحمل كل هذه الأفكار الكبيرة.

صمتُّ لحظة وأنا أنظر إلى يوسف، وكلّي فخر بأن هذا الجيل هو وحده الذي سيحمل راية العمران والسلام. لم يكن كلامه مجرد كلمات عابرة، بل كان رؤية واعية لمستقبل أفضل، رسمها طفلٌ صغيرٌ بكل براءة.

عندها شعرتُ وكأنني أمام شخصٍ حكيم، لا طفلٍ في العاشرة من عمره.

في تلك اللحظة، لمعت في ذهني فكرة، لماذا لا نكوّن مجموعة من هؤلاء الأطفال الأذكياء حتى يكونوا النواة لتغيير المشهد السياسي؟ لماذا لا نجمعهم ونعلّمهم كيف يفكرون بشكل مختلف، وكيف ينظرون إلى العالم بعيون مليئة بالأمل لا باليأس؟

لم أتردد. بعد أن تبلورت تلك الفكرة في عقلي، نظرت إلى يوسف بحماسٍ بالغ وقلت له: حدثني عن أستاذك فضل. من هو؟ وأين أستطيع أن أجده؟

ابتسم يوسف، وكأنّه ينتظر هذا السؤال. وبدأت عيناه تلمعان وهو يستعد ليروي لي حكاية أستاذه المُلهم.

 أستاذ فضل هو ابن فلاح بسيط، لديه قطعة أرض يزرعها بالخضراوات والفاكهة الموسمية. لقد علمه والده بأن حب الوطن لا يوازيه أي حب في العالم، وكذلك فقد عوده على الأكل الصحي وممارسة الرياضة، مما خلق منه إنساناً محباً وغيوراً على بلده وصحته.

أضاف يوسف: لقد قال لنا إن الإنسان القوي ليس فقط من لديه عضلات، بل من لديه عقل سليم وروح نقية، ومن يعمل من أجل وطنه بصدق.

تذكرتُ فوراً حديث والدي عن السيد قاسم، والد فضل. كان والدي يصفه دائماً بأنه رجل مثقف وصاحب حكمة، وأن قطعة أرضه الصغيرة كانت أشبه بمدرسة لتعليم مبادئ الحياة السليمة.

لم أتردد لحظة. طلبت من يوسف أن يرافقني عند الأستاذ فضل، وأخبرته أنني أريد أن أتحدث معه. ربما أجد لديه الكثير من الاجابات عن تساؤلاتي.

وافق يوسف بحماس، وبابتسامة عريضة قال: هيا بنا يا أستاذة رحاب سيعجبك كثيراً.

سرت أنا ويوسف في الطريق، وقلبي يفيض حماساً للقاء الأستاذ فضل. كنتُ أفكر في الأسئلة التي سأطرحها عليه، وأولها خطر في بالي: من أين لك كل هذا العمق في العطاء والمحبة؟

وصلنا إلى منزل الأستاذ فضل، فوجدناه يجلس في حديقته الصغيرة، يروي بعض النباتات. كانت يداه ملطختين بالتراب، لكن وجهه كان يشع بالبراءة والسلام.

تقدم نحونا، والابتسامة ترتسم على محياه وكأنها لم تفارقه قط. رحب بنا بحرارة، وعندما شاهد يوسف يسير بجانبي، ابتسم ابتسامة أعمق وقال له: أهلاً بالبطل الذكي.

نظر يوسف إلى الأرض خجلاً، بينما شعرتُ أنا بالدفء يغمرني من هذا المشهد.

وبعد أن دعانا للجلوس، سمحتُ لنفسي بالتحدث معه بكل تلقائية ودون خجل. فقد كان وجهه وأسلوبه يجعلانك تشعر أنك تعرفه منذ زمن طويل.

بينما كان يوسف منشغلاً بقطف بعض حبات الفراولة من الحديقة، نظرتُ إلى الأستاذ فضل وقلتُ له: أستاذ فضل، أجد في داخلك محيطاً من العطاء والمحبة، فمن أين لك كل هذا العمق؟

ابتسم الأستاذ فضل ابتسامة خجولة، ونظر في عمق عينيّ وقال لي: أستاذة رحاب، لقد وُلدتُ وترعرعتُ في بيت محب، وأب مثقف وواعٍ. في بيت الأب يحترم الأم ويقدر كل ما تقوم به من تضحيات. أبي علمني أن أحترم الكبير وأن أحب بلدي كما أحب نفسي، وأن أقدم العون للجميع دون استثناء.

أضاف وهو يمسح على شعر يوسف: المحبة ليست كلاماً فقط، بل هي فعل نعيشه كل يوم.

نظرتُ إليه مباشرةً وسألته: هل تعتقد أن المحبة وحدها كفيلة بإنهاء كل الحروب والصراعات القائمة؟

ابتسم الأستاذ فضل ابتسامة هادئة، وكأنه كان يتوقع هذا السؤال. نظر إلى يوسف الذي كان يلهو في الحديقة، ثم عاد بنظره إليّ.

أستاذة رحاب، المحبة هي عنصر أساسي في حياتنا. نحن لا نأكل أكلة لا نحبها، ولا نستطيع العيش مع شخص لا نتحمله. المحبة هي مصدر سعادة لشخص أو أكثر، ولذلك تجدين أن الأماكن التي تشتعل فيها الحروب هي أكثر الأماكن خلوًا من الحب.

لم يكن لدي شك في أن كلامه صحيح. عدت بذاكرتي إلى الخلف، إلى يوم جاء أحد الأشخاص لخطبتي. وافقت عليه بضغط من أسرتي، وتمت الخطبة، لكنني وجدتُ الكثير من الاختلاف بين شخصيتي وشخصيته. علاوة على ذلك، كان ثقيل الدم ولا يضحك وجهه لرغيف خبز خارج من الفرن.

في تلك الفترة، شعرتُ وكأنني أعيش في مكانٍ خالٍ من المحبة، وكأن روحي تذبل تدريجياً.

لم أتردد. تحدثتُ مع والدي وأخبرتهما بكل وضوح إذا أُجبرتُ على الزواج منه، فسوف أنتحر. لم يكن ذلك تهديداً، بل كان صرخة من قلبي، صرخة من روحي التي كانت تتوق إلى الحياة لا الى الموت.

وخوفاً عليَّ، وافق والدي على فسخ الخطوبة. في تلك اللحظة، شعرتُ وكأنني عدت للحياة من جديد. المحبة هي الحياة، وغيابها يعني الموت البطيء.

بعد كل هذا الحديث الذي جمعني مع الأستاذ فضل، أخبرته بقصتي مع الخطيب. نظر إلي وقال:

 يا أستاذة رحاب، هل رأيتِ كيف أننا لا نستطيع أن نعيش مع أشخاص لا تربطنا بهم أي عاطفة؟ فكيف يمكن أن يعيش في العالم والسلام لا يكون أحد أركانه؟

من دون شك. لقد كانت كلماته بمثابة مرآة تعكس تجربتي الشخصية، وتؤكد لي أن المحبة ليست مجرد عاطفة، بل هي أساس كل شيء في الحياة، حتى في العلاقات بين الدول والشعوب.

نظرتُ إلى يوسف الذي كان يبتسم لي، وفكرتُ لماذا لا أجمع هؤلاء الأطفال الأذكياء لأزرع فيهم بذور المحبة، فيصبحون هم نواة التغيير؟

بعد تفكير عميق، تحدثتُ مع الأستاذ فضل، وعرضتُ عليه فكرتي. لم يتردد لحظة، بل ابتسم ابتسامة هادئة وقال: أستاذة رحاب، هذا مشروع عظيم. سنبدأ به الآن وستكونين شريكتي في هذا المشروع الاستثنائي. سيكون درسنا القادم للأطفال كيف نبذر بذور الخير حتى نحصل على محصول جيد.

لم أتردد لحظة في الموافقة على طلب الأستاذ فضل أن أشاركهم بهذا الدرس الإضافي الذي سيكون خارج مبنى المدرسة، وفي حديقة منزله.

في اليوم التالي، توجهتُ إلى منزل الأستاذ فضل، وقلبي يفيض حماساً. وجدتُ الأطفال جالسين على الأرض في حلقة، يحدقون في الأستاذ فضل، وكأنهم ينتظرون منه حكمةً جديدة.

بدأ الأستاذ فضل الدرس بالترحيب بي، وقال للأطفال بصوت حنون: أيها الأبطال، هذه هي الأستاذة رحاب، صاحبة الرسالة التي ألهمتنا، والتي جعلتني أقرر أن أحدثكم اليوم عن أهمية بذر بذور الخير في حياتنا.

نظر الأطفال إليّ بدهشة وحماس، وكأنهم يرون بطلة قصة. شعرتُ بالخجل، ولكني في الوقت نفسه شعرتُ بفخر كبير.

بدأ الأستاذ فضل حديثه وهو يبتسم، وقال: يا أطفال، عندما كنتُ في مثل عمركم، كنتُ أشاهد والدي وهو يزرع بذور الفاصولياء في أرضنا. كانت تلك البذرة الصغيرة مجرد نقطة في التراب. لكن بعد وقت قصير، وجدتها تخرج من باطن الأرض، ويعلو شأنها شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت نباتاً قوياً يحمل ثماراً.

توقف الأستاذ فضل، ونظر إلى الأطفال بتمعن، ثم أضاف: رسالتي لكم اليوم هي أنكم مثل هذه البذور. إذا زرعنا فيكم بذور الخير والمحبة، فستكبرون لتصبحوا أشجاراً قوية تثمر سلاماً، وتعاوناً، ووعياً.

وبعد أن انتهى الأستاذ فضل من حديثه، طلب من الطلاب أن يتحدث كل واحد منهم عن تجربته، وكيف يمكن أن يزرع بذرة خير في حياته اليومية.

وقف يوسف أولاً، وبدأ يتحدث بحماس عن كيف أنه يخصص جزءاً من مصروفه لشراء الطعام للقطط والكلاب الضالة في الحي. ثم وقف طفل آخر، وقال إنه يساعد والدته في ترتيب المنزل، وطفلة ثالثة قالت إنها تُشارك ألعابها مع أختها الصغيرة.

بعد أن استمع الأستاذ فضل إلى الأطفال وتجاربهم الصغيرة التي تحمل معاني كبيرة، بدأ بإعطائهم دروساً بالحياة. أشار بيده إلى إحدى نباتات الحديقة وقال: انظروا إلى هذه الشجرة. إنها لا تعطي ثماراً لنفسها، بل تعطيها للجميع. هذا هو العطاء الحقيقي. كونوا مثل هذه الشجرة.

توقف قليلاً، ثم نظر إليهم بنظرة حانية وقال: "والآن، تذكروا أن المحبة تبدأ بالحب. أحبوا أنفسكم، أحبوا عائلاتكم، أحبوا أصدقاءكم، وأحبوا هذا العالم الذي أنتم جزء منه. لأن الحب هو النواة الحقيقية لكل بذرة خير.

استمر الأستاذ فضل في حديثه، وقال: تذكروا دائماً أن تكونوا أناساً معطائين ومحبين للغير وللطبيعة. حافظوا على الممتلكات العامة، وعلى الحديقة، وعلى الشارع، ولا تلوثوه. أنتم يا أولاد، الجيل الذي سوف يؤثر في المشهد السياسي يوماً ما. فكونوا مثل الأشجار التي تثمر خيراً للجميع، وليس لأنفسها فقط.

في تلك اللحظة، نظرتُ إلى وجوه الأطفال الصغيرة التي كانت تلمع بالفهم والأمل، وأدركتُ أن قصتي لم تكن مجرد حكاية أكتبها، بل كانت بذرةً حقيقيةً سأزرعها مع الأستاذ فضل في نفوس هؤلاء الأطفال.