الكاتبة اسماء الياس - صورة شخصية
فريدة تعرف هذا الصمت جيداً. فهي تراه في العيون الغائرة لأطفالها التسعة، في شحوب وجه زوجها المقعد الذي بالكاد يرفع رأسه، وفي خطوط اليأس المحفورة على وجوه والديها ووالدي زوجها.
في زاوية الخيمة المهترئة التي تتلاعب بها الرياح، كانت حماتها تتلو آياتٍ بصوت خافت، بينما كانت والدة فريدة تلمس بطنها الفارغ بحركة آلية. أما الأطفال، فقد كانوا يرقدون متلاصقين، يحاولون التغلب على الشعور بالفراغ بأجساد بعضهم البعض.
كانت فريدة تجلس على الأرضية الترابية، وعيناها مثبتتان على فتحة الخيمة. لا شيء. لا صوت لمحرك. لا غبار سيارة قادمة من بعيد. مجرد ريح تحمل معها رائحة الموت.
كل يوم كان يشبه سابقه. صراعٌ يبدأ مع أول شعاع شمس، وينتهي مع آخر تنهيدة جوع في الليل. وكان هذا الصمت، صمت الخمسة عشر فرداً، هو أشد أنواع الجوع.
عندما سمعت فريدة همس الجارة الذي تسلل عبر قماش الخيمة الممزق، انبعث في صدرها بصيص أمل يكاد يكون منسياً. سيارة المساعدات قد دخلت! كانت الكلمات تحمل ثقلاً أعظم من أي خبر آخر.
قفزت فريدة من مكانها، وكأن الحياة عادت إلى أطرافها الخدرة. لم تهتم بالرياح التي تصفع وجهها أو بالتراب الذي يملأ عينيها. دفعت بباب الخيمة المهترئ واندفعت إلى الخارج. خلفها، توقفت أنفاس عائلتها. الكل يرقبها، في صمتٍ مفعم بالدعاء والأمل.
كان المشهد في الخارج أشبه بخلية نحل. الرجال والنساء والأطفال يركضون في كل اتجاه، يتدافعون نحو شاحنة بيضاء متوقفة في منتصف المخيم. كانت الشاحنة محاطة بحشد هائل من الناس، يمدّون أيديهم، وأصواتهم تتعالى بالرجاء.
تسارع نبض قلب فريدة. أدركت أن الوقت هو العدو. عليها أن تصل قبل أن ينفد ما في الشاحنة. بدأت تركض، تتجاوز الأقدام الحافية، تتفادى الأجساد المنهكة، وعيناها مثبتتان على الأكياس التي تُوزع. كل خطوة كانت ثقيلة، وكأنها تحمل على ظهرها وزن جوع الخمسة عشر فرداً.
وصلت أخيراً إلى حافة الحشد، لكنها وجدت نفسها عاجزة عن التقدم. الأكتاف تتلاحم، والأيدي تتشابك. صرخات الأطفال تملأ الأجواء، لكنها لم تكن صرخات لعب، بل صرخات خوف وجوع.
في خضم تلك الفوضى، وبينما كانت فريدة تدفع بجسدها المنهك، شعرت بيدٍ رقيقة على كتفها. التفتت لتجد شاباً يافعاً، عيناه تحملان إشفاقاً صادقاً. كانت ملامحه شاحبة، لكن فيها إصرار.
يا خالة، لا تتحركي. قفي مكانكِ، قال لها بصوتٍ خافت ولكن حاسم، لن تستطيعي أن تقفي بوجه هذا الحشد الكثيف.
لم تفهم فريدة سبب اهتمامه، لكن كلمات الأمان التي جاءت منه كانت كبلسم يداوي جرحاً مفتوحاً. وقفت في مكانها كما طلب، تراقب الشاب وهو ينسل بمهارة بين الأجساد المتلاصقة. لم يتدافع أو يتشاجر، بل شق طريقه بهدوء وثبات، وكأنه يعرف المكان جيداً.
وصل إلى مقدمة الحشد، وتحدث مع أحد عمال الإغاثة، ثم أشار بيده نحو فريدة. انتظرت فريدة والترقب ينهش قلبها. هل سيحضر لها شيئاً؟ ام هل سيُخذل أملها كما حدث مرات ومرات؟
عادت عينا فريدة إلى الحياة عندما رأته يتقدم نحوها. كان يلهث، لكن ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه وهو يحمل كيساً ضخماً من الطحين في يده، وباليد الأخرى يحمل صندوقاً كبيراً.
عندما وصل إليها، وضع الكيس والصندوق على الأرض، وتفحص ملامحها المنهكة. تفضلي يا خالة، قال بهدوء. لم أستطع الحصول على المزيد، لكن هذا يكفي ليومين أو ثلاثة.
فتحت فريدة الصندوق بيدين مرتجفتين. كان بداخله أكثر مما توقعت: علب من السردين، وحليب مجفف، وأكياس من العدس، وعلبة سمن صغيرة. لم تستطع أن تتمالك دموعها. كانت هذه الكمية من الطعام أكثر مما رأته عائلتها مجتمعة منذ أسابيع.
رفعت رأسها لتشكره، لكنه كان يبتسم بمرارة. أمي أيضاً لديها تسعة أطفال، قال بهدوء. إنها تنتظر في الجهة الأخرى من المخيم. أظن أننا نعيش نفس الحياة.
استدار الشاب وغادر، تاركاً فريدة وحيدة مع كنوزها. ظلت واقفة للحظة، غير مصدقة ما حدث. لقد كان رجلاً غريباً، لكنه منحها أكثر من الطعام؛ منحها الأمل.
حملت فريدة الكيس والصندوق، وكان وزنهما يبعث في قلبها ثقلاً من نوع آخر، ثقلاً من الأمل. عادت بخطوات سريعة إلى الخيمة التي لم تكن بعيدة. وما إن اقتربت، حتى لمحت من بعيد عيون أطفالها وهي تراقبها من فتحة الخيمة.
عندما دخلت، انفجر الصمت المطبق بضجيج من الفرح. لم تكن مجرد هتافات، بل كانت صرخات فرح وحمد. قفز الأطفال من أماكنهم وتجمعوا حولها، يلمسون الصندوق والكيس في ذهول، كأنها كنوز أسطورية.
ابتسمت فريدة أخيراً، وانهارت على ركبتيها من الإرهاق. نظر إليها زوجها المقعد بعينين تلمعان بالدموع والامتنان، في حين بدأت والدتها وحماتها في توزيع بعض المعلبات على الأطفال.
في تلك اللحظة، لم تعد فريدة تشعر بالتعب أو الإرهاق. كان صوت الجوع قد صمت أخيراً، ليحل محله صوت الضحكات الصغيرة والهمسات السعيدة. لقد نجحت في مهمتها. لقد أحضرت لهم الحياة في صندوق من الكرتون وكيس من القماش.
خرجت فريدة من الخيمة، تحمل كيساً صغيراً فيه قطع من الحطب جمعتها من أنقاض البيوت المهدّمة. كانت كل قطعة من الخشب تحمل في طياتها ذكرى حياة سابقة، لكن اليوم، كان لها غرض واحد فقط: إشعال شعلة الأمل.
أشعلت النار الصغيرة بحذر، ووضعت قدراً عليها. صعدت دخان كثيف، وامتزجت رائحته المألوفة مع رائحة العدس الذي سكبته فريدة في الماء. كان الأطفال يراقبونها بدهشة، وكأنها ساحرة تقوم بتحضير جرعة سحرية.
بدأت الرائحة تنتشر ببطء، تتسرب إلى داخل الخيمة، وتتغلب على رائحة التراب واليأس. كانت كل حبة عدس تنتفخ ببطء في الماء المغلي، كأنها وعد صغير بالامتلاء. كان هذا هو صوت الجوع وهو يصمت أخيراً، ليس بصمتٍ مفروض، بل بصوت طقطقة الحطب ورائحة الطعام.
عندما نضج الطعام، صبته فريدة في أطباق قليلة متفرقة. كانت كمية الطعام تبدو ضئيلة، لكنها في عيون عائلتها كانت وليمة. تجمع الجميع حول الأطباق، لا يتكلمون، بل يتبادلون نظرات من الشكر والامتنان.
رفعت فريدة ملعقة مملوءة بالعدس لأول طفل لها. كان طفلها الأكبر، ولكن عيناه كانتا تحكيان قصة الجوع. فتح فمه الصغير ببطء، وتلذذ بأول لقمة من الطعام الساخن. في تلك اللحظة، شعرت فريدة بأنها قد ملكت العالم كله.
أصبحت المساعدات تصل كل يوم بانتظام. لم تعد شاحنة الإغاثة مجرد سراب، بل حقيقة تتكرر. بدأ جسد فريدة يستعيد قوته، واستعادت عيناها بريقهما المفقود. تحوّل الأطفال من أجساد هزيلة إلى كائنات صغيرة تمارس اللهو من جديد. أصبح صوت ضحكاتهم أعلى من صوت الرياح التي تتلاعب بالخيمة الممزقة، وبدأت ملامح الجوع تختفي من وجوههم تدريجياً.
حتى زوجها المقعد، ووالديها ووالدي زوجها، بدوا وكأن الحياة تدب فيهم من جديد. كان الطعام أكثر من مجرد وقود؛ كان دواءً للروح، يعيد لهم إنسانيتهم التي كادت أن تضيع.
وفي اليوم الثالث، بدأت الأخبار تتسلل إلى المخيم كهمس خجول. هناك حل في الأفق... محادثات... اتفاق وشيك.
كانت الكلمات تتردد بين الخيام، حذرة وممزوجة بالترقب. لقد تعلم الناس هنا أن الأمل قد يكون قاتلاً أحياناً. لكن هذه المرة، كانت الأخبار مصحوبة بالدليل المادي: شاحنات المساعدات التي تصل بانتظام.
جلست فريدة في المساء، بينما كان أطفالها نائمين بطمأنينة غير مألوفة. نظرت إلى زوجها، ثم إلى والديها، ورأت في عيونهم جميعاً بصيصاً من النور لم تره منذ زمن طويل. كان حلماً بدأ يتشكل، حلماً بالعودة إلى بيوتهم، إلى حياتهم القديمة.
لم تكن الأخبار التي وصلت إلى فريدة مجرد شائعات عابرة. ففي اليوم التالي، أعلن راديو صغير كان يملكه أحدهم في المخيم عن وقف مؤقت لإطلاق النار، وأن ذلك جاء نتيجة لضغوط مكثفة من دول الغرب.
أصبح الحديث عن حل حقيقة ملموسة. كان الجميع يتداولون الخبر بصوتٍ خافت، وكأنهم يخشون أن يزول مع أول هبة ريح. لقد وضعوهم في الزاوية، قال والد فريدة بصوتٍ مرتجف، لم يعد بإمكانهم تجاهل جوع وموت أطفالنا. هذا ما يسمى جريمة حرب.
نظرت فريدة إلى وجوه أطفالها الممتلئة قليلاً، وتذكرت صورهم وهم يتضورون جوعاً قبل أيام. شعرت بغصة في حلقها. كان الأمر محزناً فأن كل هذه المعاناة احتاجت إلى ضغط دولي لكي يلتفت إليها العالم. ولكن في الوقت نفسه، كان هناك بصيص من الأمل.
بدأت فريدة تسمع قصصاً عن عائلات بدأت تستعد للعودة إلى ديارها. كان البعض يخشى العودة إلى بيوت مهدمة، لكنهم كانوا يفضلون ذلك على البقاء في خيمة تهزها الرياح.
في المساء، وبينما كانت تعد وجبة العشاء، لاحظت فريدة أن يوسف، أخاها الصغير، كان يحدّق في السماء، لا خوفاً، بل بفضول. سألته عما ينظر إليه، فقال: أبحث عن النجوم يا فريدة. هل ستعود النجوم إلى سمائنا في بيتنا القديم؟
كان السؤال بسيطاً، لكنه يحمل في طياته حلماً بالعودة إلى الحياة الطبيعية.
بدأت فريدة رحلة العودة إلى المنزل مع عائلتها. كانت المسافة قصيرة، لكنها بدت أطول من أي وقت مضى. كانت الطرقات ممتلئة بالركام والأنقاض، وكل خطوة كانت تذكّرهم بالدمار الذي حلّ بمدينتهم. الأطفال كانوا يحدقون في كل شيء بفضول محيّر، بينما كان الكبار يتنقلون بصمتٍ، تتخالط في قلوبهم مشاعر الحزن والأمل.
عندما وصلوا إلى الشارع الذي كانت فيه دارهم، توقفت فريدة فجأة. كان البيت ما يزال هناك، واقفاً، لكنه لم يكن المنزل الذي تركوه. كانت أطرافه مهدمة، والجدران مكسوة بالسواد، والشبابيك مفقودة، لكن الهيكل الأساسي ظلّ صامداً، كشاهد صامت على كل ما مرّوا به.
تسللت دمعة من عين فريدة وهي تنظر إلى ذلك المشهد. كان القلب يتألم على كل ركنٍ مهدوم، وعلى كل ذكرى تلاشت مع جدار انهار. لكن في الوقت نفسه، شعرت بنبضة من الأمل. البيت ما زال هنا. لم يختفِ تماماً.
نظر إليها زوجها بعينين حزينتين، بينما كان الأطفال يتساءلون: هل هذا بيتنا يا أمي؟
أومأت فريدة برأسها، وقالت بصوتٍ متهدج: نعم يا أحبائي، هذا بيتنا. كانت كلماتها تحمل ثقلاً عظيماً، ثقل الماضي وعبء المستقبل.
في اللحظة التي دخلت فيها فريدة، لم تهتم بالنظر إلى الأطلال، بل ركّزت على مهمة واحدة: إيجاد مكان آمن ومريح لوالدها ووالدتها المسنّين، وزوجها المقعد.
تحت أشعة الشمس، بدأ الأولاد بجمع الأحجار المبعثرة والأتربة، بينما كانت فريدة تزيح القطع المكسورة من الزجاج والمخلفات. كانت كل حركة منهم مليئة بالإصرار. كان عملهم لا يهدف فقط إلى تنظيف المكان، بل إلى إرسال رسالة: سنبقى هنا. هذا بيتنا.
بعد جهدٍ كبير، نجحوا في تنظيف زاوية صغيرة من الغرفة التي كانت تعتبر غرفة المعيشة سابقاً. استخدموا قطعة قماش كبيرة لتغطية الأرضية، ووضعوا عليها بعض البطانيات التي أحضروها معهم. كانت المساحة ضيقة، لكنها كانت كافية.
جلس الأب والوالدة والزوج المقعد على الأرض، يراقبون بحسرة ما آلت إليه الحال، ولكن في عيونهم كان هناك أيضاً شعور بالراحة، ولو كان بسيطاً. لقد عادوا إلى مكانهم.
اجتمعت العائلة كلها في تلك الزاوية الصغيرة، وكأنها جزيرة هادئة وسط محيط من الدمار.
وعندما حلّ الظلام، عاد السكون ليخيم على المكان، ولكن هذه المرة كان صمتاً مختلفاً، صمتٌ ممزوجٌ بالترقب. كانت عائلة فريدة جالسة في الظلام، تحيط بها أشباح الماضي المتمثلة في الجدران المهدمة.
فجأة، انبعث نور خافت من الخارج. ظهر شاب في مدخل البيت المنهار، يحمل فانوساً يضيء بضوء دافئ. كان أحد المتطوعين من المخيمات القريبة، يمر على العائلات التي عادت، حاملاً معه الأمل في علب من الصفيح.
هذا لكم يا خالة فريدة، قال الشاب بصوتٍ هادئ، وعيناه تبحثان عن كبار السن في الداخل. إنه تبرع من دول مجاورة وبعيدة، خصيصاً للعائلات التي لديها كبار في السن أو شخص مقعد.
مدّت فريدة يدها لتأخذ الفانوس، وشعرت وكأنها تحمل في يدها الشمس. وضعت الفانوس في منتصف الغرفة، وفجأة، تحول الظلام القاتم إلى نورٍ يحمل معه الدفء والأمان.
انعكس نور الفانوس على وجوه الجميع، فرسم عليها ملامح من الراحة والطمأنينة. لأول مرة منذ زمن طويل، بدت الوجوه حقيقية، لا مجرد ظلالٍ يائسة. حتى الأطلال المحيطة بهم بدت أقل وحشةً في ضوء الفانوس.
كانت كلمة "الإعمار" هي أكثر ما يتردد على الألسنة. لم تعد مجرد فكرة بعيدة، بل أصبحت عملاً يومياً. بدأت فريدة وعائلتها رحلة الإعمار، ليس فقط لمنزلهم، بل لأرواحهم أيضاً.
بدأوا بجمع الحجارة السليمة من الأنقاض، ووضعوها جانباً. كان كل حجر يتم إنقاذه كأنه جزء من الذاكرة التي يمكن استعادتها. عمل الأطفال بحماس، وكان صوت ضحكاتهم أثناء جمع الحجارة يملأ الفراغ الذي تركه صوت القصف. حتى والد فريدة وحموها، رغم تقدمهما في السن، كانا يوجّهان الأطفال من مكانهما، وكأن الخبرة هي الحجر الأساس في عملية البناء.
وفي أحد الأيام، عاد الشاب الذي أحضر لهم الفانوس، ومعه أدوات بسيطة. لم يأتِ بمفرده، بل جاء مع مجموعة من الشباب الذين قرروا أن يبدأوا حملة لإعادة بناء بيوت العائلات الأكثر تضرراً.
الجميع يعمل يا خالة، قال لها وهو يبتسم. لقد تعبنا من انتظار الآخرين، والآن نبني بأنفسنا.
شعرت فريدة بقلبها ينتعش. لم تعد هي المسؤولة الوحيدة عن إعادة بناء حياتها. كان هناك مجتمع كامل يقف معها. في نهاية اليوم، عندما كانت تتأمل الجدار الذي بدأوا في بنائه من جديد، شعرت بأن الأمل ليس مجرد شعور، بل هو عمل يُبنى حجراً بعد حجر.
كانت غرفة الأبناء هي أول ما بدأوا في بنائه. لم تكن مجرد جدران، بل كانت وعداً بالمستقبل، ومهداً للأحلام التي كادت أن تموت. عملت فريدة مع الشباب المتطوعين، ومع أبنائها، ومع كل حجر تم إيجاده في الأنقاض. كل طوبة وُضعت في مكانها كانت بمثابة بصيص نور جديد يضاف إلى حياتهم.
وبعد فترة من العمل الدؤوب الذي لم يتوقف، بدأت الغرف الأخرى تكتمل بشكل تدريجي. غرفة المعيشة، المطبخ، وغرفة نوم الزوجين. كل ركن من المنزل كان يُعاد بناؤه بحب وإصرار. كان البيت يرتفع من جديد، ليس فقط كجدران وسقف، بل كشهادة على إرادة لا تنكسر.
وفي ليلة لم تعد فيها الرياح تتسلل من ثقوب الخيمة، اجتمعت العائلة كلها داخل منزلها الذي استعاد عافيته. لم يكن القصف يتردد في الخارج، ولم يكن الجوع يتحدث في الداخل. كان هناك صوت آخر هذه المرة: صوت ضحكات الأطفال، وأحاديث الكبار، وصوت السلام.
في تلك الليلة، نظر الجميع إلى فريدة. كانت عيناها تلمعان بالدموع، لكنها لم تكن دموع حزن أو يأس، بل كانت دموع انتصار. لقد بدأت قصتهم في خيمة ممزقة، وتجرّعت مرارة الجوع، ورأت الخوف في عيون أحبائها، لكنها لم تستسلم. فمن بين الأنقاض، ومن رحم المعاناة، تمكنت فريدة من بناء منزل، وبناء حياة، وبناء أمل لا يمكن لأحد أن يهدمه.
كانت رائحة الطعام المطهو حديثاً يملأ كل زاوية من الغرف التي أعيد بناؤها. جلس الجميع حول مائدة بسيطة، وتلذذوا بطعام لم يكن مجرد وجبة، بل كان رمزاً للحياة التي عادت. نظرت فريدة إلى وجوه أبنائها الممتلئة فرحًا، وإلى عيني زوجها التي عاد إليهما البريق.
لم يعد منزلهم مجرد مكان للإيواء، بل أصبح ملاذاً يملأه الأمان. فمن بين الأنقاض، ومن رحم المعاناة، تمكنت فريدة من بناء منزل، وبناء حياة، وبناء أمل لا يمكن لأحد أن يهدمه. لقد صمت الجوع أخيراً، تاركاً وراءه قصة عن الصمود، لا تُروى بالكلمات فقط، بل تُرى في كل حجر تم بناؤه من جديد.
